سورة الصافات - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصافات)


        


{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)}
اعلم أنه تعالى لما وصف أحوال المتكبرين عن قبول التوحيد المصرين على إنكار النبوة أردفه بذكر حال المخلصين في كيفية الثواب، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكرنا في فتح اللام وكسرها من المخصلين قراءتين فالفتح أن الله تعالى أخلصهم بلطفه واصطفاهم بفضله والكسر هو أنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف رزقهم بكونه معلوماً، ولم يبين أن أي الصفات منه هو المعلوم فلذلك اختلفت الأقوال، فقيل معناه إن ذلك الرزق معلوم الوقت وهو مقدار غدوة وعشية وإن لم يكن ثمة لا بكرة ولا عشية، قال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62]، وقيل معناه أن ذلك الرزق معلوم الصفة لكونه مخصوصاً بخصائص خلقها الله فيه من طيب طعم ورائحة ولذة حسن منظر، وقيل معناه أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ولا متى ينقطع، وقيل معناه: القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وكرامته عليهم، وقد بين الله تعالى أنه يعطيهم غير ذلك على سبيل التفضل، ثم لما ذكر تعالى أن لهم رزقاً بين أن ذلك الرزق ما هو فقال: {فواكه} وفيه قولان الأول: أن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة، وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ والثاني: أن المقصود من ذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى، يعني لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان الأدام أولى بالحضور، والقول الأول أقرب إلى التحقيق، واعلم أنه تعالى لما ذكر الأكل بين أن ذلك الأكل حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال: {وَهُم مُّكْرَمُونَ} لأن الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم.
ولما ذكر تعالى مأكولهم وصف تعالى مساكنهم فقال: {فِي جنات النعيم * على سُرُرٍ متقابلين} ومعناه أنه لا كلفة عليهم في التلاقي للأنس والتخاطب، وفي بعض الأخبار أنهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم، ولا يجوز أن يكونوا متقابلين إلا مع حصول الخواطر والسرائر ولن يكونوا كذلك إلا مع الفسحة والسعة، ولا يجوز أن يسمع بعضهم خطاب بعض ويراه على بعد إلا بأن يقوي الله أبصارهم وأسماعهم وأصواتهم، ولما شرح الله صفة المأكل والمسكن ذكر بعده صفة الشراب فقال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ} يقال للزجاجة التي فيها الخمر كأس وتسمى الخمرة نفسها كأساً قال:
وكأس شربت على لذة *** وأخرى تداويت منها بها
وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وقوله: {مّن مَّعِينٍ} أي من شراب معين، أو من نهر معين، المعين مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي معيناً لظهوره يقال عان الماء إذا ظهر جارياً، قاله ثعلب فهو مفعول من العين نحو مبيع ومكيل، وقيل سمي معيناً لأنه يجري ظاهر العين، ويجوز أن يكون فعيلاً من المعين وهو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في المسير إذا اشتد فيه، وقوله: {بَيْضَاء} صفة للخمر، قال الأخفش، خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن، وقوله: {لَذَّةٍ} فيه وجوه:
أحدها: أنها وصفت باللذة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال فلان جود وكرم إذا أرادوا المبالغة في وصفه بهاتين الصفتين.
وثانيها: قال الزجاج أي ذات لذة فعلى هذا حذف المضاف.
وثالثها: قال الليث: اللذ واللذيذ يجريان مجرى واحداً في النعت ويقال شراب لذ ولذيذ قال تعالى: {بَيْضَاء لَذَّةٍ للشاربين} وقال تعالى: {مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ للشاربين} [محمد: 15] ولذلك سمي النوم لذاً لاستلذاذه، وعلى هذا لذة بمعنى لذيذة، والأقرب من هذه الوجوه الأول.
ثم قال تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} وفيه أبحاث:
البحث الأول: قال الفراء العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول سواء، وقال أبو عبيدة الغول أن يغتال عقولهم، وأنشد قول مطيع بن إياس:
وما زالت الكأس تغتالهم *** وتذهب بالأول الأول
وقال الليث: الغول الصداع والمعنى ليس فيها صداع كما في خمر الدنيا، قال الواحدي رحمه الله وحقيقته الإهلاك، يقال غاله غولاً أي أهلكه، والغول والغائل المهلك، ثم سمي الصداع غولاً لأنه يؤدي إلى الهلاك.
ثم قال تعالى: {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} وقرئ بكسر الزاي قال الفراء من كسر الزاي فله معنيان يقال أنزف الرجل إذا نفدت خمرته، وأنزف إذا ذهب عقله من السكر ومن فتح الزاي فمعناه لا يذهب عقولهم أي لا يسكرون يقال نزف الرجل فهو منزوف ونزيف، والمعنى ليس فيها قط نوع من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر من صداع أو خمار أو عربدة ولا هم يسكرون أيضاً، وخصه بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر، ولما ذكر الله تعالى صفة مشروبهم ذكر عقيبه صفة منكوحهم من ثلاثة أوجه:
الأول: قوله: {وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف} ومعنى القصر في اللغة الحبس ومنه قوله تعالى: {حُورٌ مقصورات فِي الخيام} [الرحمن: 72] والمعنى أنهن يحبسن نظرهن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {عِينٌ} قال الزجاج: كبار الأعين حسانها واحدها عيناء.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} المكنون في اللغة المستور يقال كننت الشيء وأكننته، ومعنى هذا التشبيه أن ظاهر البيض بياض يشوبه قليل من الصفرة، فإذا كان مكنوناً كان مصوناً عن الغبرة والقترة، فكان هذا اللون في غاية الحسن والعرب كانوا يسمون النساء بيضات الخدور.
ولما تمم الله صفات أهل الجنة قال: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} فإن قيل على أي شيء عطف قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ}؟ قلنا على قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} والمعنى يشربون ويتحادثون على الشراب قال الشاعر:
وما بقيت من اللذات إلا *** محادثة الكرام على المدام
والمعنى فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا.


{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى كما ذكر في أهل الجنة أنهم يتساءلون عند الاجتماع على شرب خمر الجنة فإن محادثة العقلاء بعضهم مع بعض على الشرب من الأمور اللذيذة، وتذكر الخلاص عند اجتماع أسباب الهلاك من الأمور اللذيذة، ذكر تعالى في هذه الآية أن أهل الجنة إذا اجتمعوا على الشرب وأخذوا في المكالمة والمساءلة كان من جملة تلك الكلمات أنهم يتذكرون أنهم كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية، والمقصود من ذكر هذه الأشياء أن أهل الجنة يتكامل سرورهم وبهجتهم.
أما قوله: {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ} أي قال قائل: من أهل الجنة إني كان لي قرين في الدنيا {يِقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين} أي كان يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجبا: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَدِينُونَ} أي لمحاسبون ومجازون، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار، ثم إن ذلك الرجل الذي هو من أهل الجنة يقول لجلسائه يدعوهم إلى كمال السرور بالاطلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ * فاطَّلِعَ} والأقرب أنه تكلف أمراً اطلع معه لأنه لو كان مطلعاً بلا تكلف لم يكن إلى اطلاعه حاجة فلذلك قال بعضهم إنه ذهب إلى بعض أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار {فَرَءاهُ فِي سَوَاء الجحيم} أي في وسط الجحيم قال له موبخاً: {تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي لتهلكني بدعائك إياي إلى إنكار البعث والقيامة {وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى} بالإرشاد إلى الحق والعصمة عن الباطل {لَكُنتُ مِنَ المحضرين} في النار مثلك، ولما تمم ذلك الكلام مع الرجل الذي كان في الدنيا قريناً له وهو الآن من أهل النار عاد إلى مخاطبة جلسائه الذين هم من أهل الجنة فقال: {أفما نحن بميتين} وفيه قولان الأول: أن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم في الجنة أنهم لا يموتون، فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون، فلعل هذا الكلام حصل قبل ذبح الموت والثاني: أن الذي يتكامل خيره وسعادته فإذا عظم تعجبه بها قد يقول أيدوم هذا لي؟ أفيبقى هذا لي؟ وإن كان على يقين من دوامه، ثم عند فراغهم من هذه المباحثات يقولون: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم}.
وأما قوله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} فقيل إنه من بقية كلامهم، وقيل إنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لطلب مثل هذه السعادات يجب أن يعمل العاملون.
المسألة الثانية: قال بعضهم المراد من هذا القائل ومن قرينه ما ذكره الله تعالى في سورة الكهف (32) في قوله: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} إلى آخر الآيات، وروي أن رجلين كانا شريكين فحصل لهما ثمانية آلاف دينار فقال أحدهما للآخر أقاسمك فقاسمه واشترى داراً بألف ديناراً فأراها صاحبه وقال: كيف ترى حسنها فقال: ما أحسنها فخرج وقال: اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه تزوج بامرأة حسناء بألف دينار فتصدق هذا بألف دينار لأجل أن يزوجه الله من الحور العين، ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار، ثم إن الله أعطاه في الجنة ما طلب فعند هذا قال: {إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ} إلى قوله: {فاطلع فَرَءاهُ فِي سَوَاء الجحيم} [الصافات: 55].
المسألة الثالثة: قوله: {أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين * أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَدِينُونَ} اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة قرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير ممدودة والثالثة بكسر الألف من غير استفهام، ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين، وقرأ ابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام، وقرأ الباقون بالاستفهام في جميعها، ثم اختلفوا فإبن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة، وأبو عمرو مطولة، وعاصم وحمزة بهمزتين.
وأما قوله: {إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} قرأ نافع برواية ورش لترديني بإثبات الياء في الوصل والباقون بحذفها.
المسألة الرابع: احتج أصحابنا على أن الهدى والضلال من الله تعالى بقوله تعالى: {وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ المحضرين} وقالوا: مذهب الخصم أن كل ما فعله الله تعالى من وجوه الإنعام في حق المؤمن فقد فعله في حق الكافر، وإذا كان ذلك الإنعام مشتركاً فيه امتنع أن يكون سبباً لحصول الهداية للمؤمن. وأن يكون سبباً لخلاصه من الكفر والردى فوجب أن تكون تلك النعمة المخصوصة أمراً زائداً على تلك الإنعامات التي حصل الاشتراك فيها، وما ذلك إلا بقوة الداعي إلى الإيمان وتكميل الصارف عن الكفر.
المسألة الخامسة: احتج نفاة عذاب القبر بقول الرجل الذي من أهل الجنة {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى} فهذا يدل على أن الإنسان لا يموت إلا مرة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلاً مرتين والجواب: أن قوله: {إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى} المراد منه كل ما وقع في الدنيا، والله أعلم.


{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}
اعلم أنه تعالى لما قال بعد ذكر أهل الجنة ووصفها {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} [الصافات: 61] أتبعه بقوله: {أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يورد ذلك على كفار قومه ليصير ذلك زاجراً لهم عن الكفر، وكما وصف من قبل مآكل أهل الجنة ومشاربهم وصف أيضاً في هذه الآية مآكل أهل النار ومشاربهم.
أما قوله: {أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} فالمعنى أن الرزق المعلوم المذكور لأهل الجنة {خَيْرٌ نُّزُلاً} أي خير حاصلاً {أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} وأصل النزل الفضل الواسع في الطعام يقال طعام كثير النزل، فاستعير للحاصل من الشيء، ويقال أرسل الأمير إلى فلان نزلاً وهو الشيء الذي يصلح حال من ينزل بسببه، إذا عرفت هذا فنقول حاصل الرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور، وحاصل شجرة الزقوم الألم والغم، ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية إلا أنه جاء هذا الكلام، إما على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم، والكافرين اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم فقيل لهم ذلك توبيخاً لهم على سوء اختيارهم، وأما {الزقوم} فقال الواحدي رحمه الله لم يذكر المفسرون. للزقوم تفسيراً إلا الكلبي فإنه روي أنه لما نزلت هذه الآية قال ابن الزبعري أكثر الله في بيوتكم الزقوم، فإن أهل اليمن يسمون التمر والزبد بالزقوم، فقال أبو جهل لجاريته زقمينا فأتته بزبد وتمر، وقال: تزقموا. ثم قال الواحدي ومعلوم أن الله تعالى لم يرد بالزقوم هاهنا الزبد والتمر، قال ابن دريد لم يكن للزقوم اشتقاق من التزقم وهو الإفراط من أكل الشيء حتى يكره ذلك يقال بات فلان يتزقم. وظاهر لفظ القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعام منتنة الرائحة شديدة الخشونة موصوفة بصفات كل من تناولها عظم من تناولها، ثم إنه تعالى يكره أهل النار على تناول بعض أجزائها.
أما قوله تعالى: {إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين} ففيه أقوال: الأول: أنها إنما صارت فتنة للظالمين، من حيث إن الكفار لما سمعوا هذه الآية، قالوا: كيف يعقل أن تنبت الشجرة في جهنم مع أن النار تحرق الشجرة؟ والجواب عنه أن خالق النار قادر على أن يمنع النار من إحراق الشجر، ولأنه إذا جاز أن يكون في النار زبانية والله تعالى يمنع النار عن إحراقهم فلم لا يجوز مثله في هذه الشجرة؟ إذا عرفت هذا السؤال والجواب فمعنى كون شجرة الزقوم فتنة للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وقعت تلك الشبهة في قلوبهم وصارت تلك الشبهة سبباً لتماديهم في الكفر فهذا هو المراد من كونها فتنة لهم والوجه الثاني: في التفسير أن يكون المراد صيرورة هذه الشجرة فتنة لهم في النار لأنهم إذا كلفوا تناولها وشق ذلك عليهم، فحينئذ يصير ذلك فتنة في حقهم الوجه الثالث: أن يكون المراد من الفتنة الامتحان والاختبار، فإن هذا شيء بعيد عن العرف والعادة مخالف للمألوف والمعروف، فإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على الزنديق توسل به إلى الطعن في القرآن والنبوة.
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الشجرة وصفها بصفات الصفة الأولى: قوله إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم قيل منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها الصفة الثانية: قوله: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشياطين} قال صاحب الكشاف: الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها، إما استعارة لفظية أو معنوية، وقال ابن قتيبة سمي (طلعاً) لطلوعه كل سنة، ولذلك قيل طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره، وأما تشبيه هذا الطلع برؤوس الشياطين ففيه سؤال، لأنه قيل إنا ما رأينا رؤوس الشياطين فكيف يمكن تشبيه شيء بها؟ وأجابوا عنه من وجوه:
الأول: وهو الصحيح أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح والتشويه في الصورة والسيرة، فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة تقرير الكمال والفضيلة في قوله: {إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] فكذلك وجب أن يحسن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح وتشويه الخلقة، والحاصل أن هذا من باب التشبيه لا بالمحسوس بل بالمتخيل، كأنه قيل إن أقبح الأشياء في الوهم والخيال هو رؤوس الشياطين فهذه الشجرة تشبهها في قبح النظر وتشويه الصورة، والذي يؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئاً شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة، قالوا إنه شيطان، وإذا رأوا شيئاً حسن الصورة والسيرة، قالوا إنه ملك، وقال امرؤ القيس:
أتقتلني والمشرفي مضاجعي *** ومسنونة زرق كأنياب أغوال
والقول الثاني: أن الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف، وهي من أقبح الحيات، وبها يضرب المثل في القبح، والعرب إذا رأت منظراً قبيحاً قالت: كأنه شيطان الحماطة، والحماطة شجرة معينة والقول الثالث: أن رؤوس الشياطين، نبت معروف قبيح الرأس، والوجه الأول هو الجواب الحق، واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الشجرة وذكر صفتها بين أن الكفار {لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} واعلم أن إقدامهم على ذلك الأكل يحتمل وجهين:
الأول: أنهم أكلوا منها لشدة الجوع، فإن قيل وكيف يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة طعمها؟ قلنا: إن الواقع في الضرر العظيم ربما استروح منه إلى ما يقاربه في الضرر، فإذا جوعهم الله الجوع الشديد فزعوا في إزالة ذلك الجوع إلى تناول هذا الشيء وإن كان بالصفة التي ذكرتموها الوجه الثاني: أن يقال الزبانية يكرهونهم على الأكل من تلك الشجرة تكميلاً لعذابهم.
واعلم أنهم إذا شبعوا فحينئذ يشتد عطشهم ويحتاجون إلى الشراب، فعند هذا وصف الله شرابهم، فقال: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات: 67] قال الزجاج: الشوب اسم عام في كل ما خلط بغيره، والحميم الماء الحار المتناهي في الحرارة، والمعنى أنه إذا غلبهم ذلك العطش الشديد سقوا من ذلك الحميم، فيحنئذ يشوب الزقوم بالحميم نعوذ بالله منهما.
واعلم أن الله وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها كونه غساقاً، ومنها قوله: {وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [محمد: 15] ومنها ما ذكره في هذه الآية، فإن قيل ما الفائدة في كلمة {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ}؟ قلنا فيه وجهان الأول: أنهم يملأون بطونهم من شجرة الزقوم وهو حار يحرق بطونهم فيعظم عشطهم، ثم إنهم لا يسقون إلا بعد مدة مديدة والغرض تكميل التعذيب، والثاني: أنه تعالى ذكر الطعام بتلك البشاعة والكراهة، ثم وصف الشراب بما هو أبشع منه، فكان المقصود من كلمة ثم بيان أن حال المشروب في البشاعة أعظم من حال المأكول، ثم قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم} قال مقاتل: أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم، وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم، وذلك بأن يكون الحميم من موضع خارج عن الجحيم، فهم يوردون الحميم لأجل الشرب كما تورد الإبل إلى الماء، ثم يوردون إلى الجحيم، فهذا قول مقاتل، واحتج على صحته بقوله تعالى: {هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ} [الرحمن: 43، 44] وذلك يدل على صحة ما ذكرناه، ثم إنه تعالى لما وصف عذابهم في أكلهم وشربهم قال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ ضَالّينَ * فَهُمْ على ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} قال الفراء: الإهراع الإسراع يقال هرع وأهرع إذا استحث، والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعاً في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم، والمقصود من الآية أنه تعالى علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين وترك اتباع الدليل، ولو لم يوجد في القرآن آية غير هذه الآية في ذم التقليد لكفى.
ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يوجب التسلية له في كفرهم وتكذيبهم، فقال: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} فبين تعالى أن إرساله للرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف، ويجب أن يكون له صلى الله عليه وسلم أسوة بهم حتى يصبر كما صبروا، ويستمر على الدعاء إلى الله وإن تمردوا، فليس عليه إلا البلاغ.
ثم قال تعالى: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} وهذا وإن كان في الظاهر خطاباً مع الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن المقصود منه خطاب الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار جميع ما جرى من أنواع العذاب على قوم نوح وعلى عاد وثمود وغيرهم، فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظن وخوف يصلح أن يكون زاجراً لهم عن كفرهم. وقوله تعالى: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} فيه قولان أحدهما: أنه استثناء من قوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين} والثاني: أنه استثناء من قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} [يونس: 73] فإنها كانت أقبح العواقب وأفظعها إلا عاقبة عباد الله المخلصين، فإنها كانت مقرونة بالخير والراحة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8